الخميس، 11 يونيو 2020

النص الفلسفي

 تعد النصوص، كما هو وارد في التوجيهات التربوية الخاصة بتدريس الفلسفة، في سلك التعليم الثانوي التأهيلي، مكونا أساسيا في المجزوءة، حيث ينبغي أن يتم اختيارها حسب مبدأ التدرج في التكوين، وتوظف لتشغيل التلاميذ على اللغة الفلسفية وتعتمد في إبراز لحظات التفلسف(1). كما تشكل النصوص، موضوعا للتقويم (2) . لكن علاقة  المتعلمين بالنص الفلسفي تبدو متوترة نظرا لانغلاق النص عليهم وصعوبته،  إذ لا يندرج في نظام تمثلاتهم  ويبدو لهم بعيدا عن حياتهم الشخصية، كما  يتطلب جهدا  وصبرا في قراءته،  خصوصا وأن لغته  قد تبدو لهم  كلغة أجنبية أو غريبة، رغم أن النصوص الفلسفية مكتوبة بلغة عادية وطبيعية،  بل كلما كان النص  خاليا من المصطلحات التقنية الفلسفية، كلما ازدادت صعوبته. فكيف يمكن الاشتغال على النص و تشغيل التلاميذ عليه و تيسير قراءته لهم؟ هل الأسئلة  المرفقة بالنص من قبيل ما هي أطروحة النص؟  ما هي فكرته الأساسية؟ ما هو حجاجه...؟ يمكن أن تسهل قراءة النص.؟

 إن هذا النوع من الأسئلة، التي يتم تطبيقها من خارج النص،  تدفع التلميذ ( والمدرس) في غالب الأحيان، إلى إجابات متسرعة مجتزأة لا تحث على قراءة النص، بقدر ما تدفع المتعلم، إلى تقطيعه، قبل أن يدرك"المعنى " الذي يحمله ،أو تجعله يقوم بتطبيق ميكانيكي لنموذج قبلي.  وكثيرا ما نلاحظ كيف يبحث التلاميذ عن الأطروحة  في بداية النص أو في كلمة أو مفهوم، إما لأن بلاغة النص جعلته مفهوما بارزا أو لتكراره،  رغم  أن الأطروحة قد لا تكون بالضرورة في بداية النص و قد لا تكون دوما واردة في تعبير صريح .
 هل تكفي التوجيهات (الواردة في المذكرات )، والتي يمكن تقديمها بشكل شفوي أو كتابي، كي يتجاوز التلاميذ أخطاء القراءة والكتابة؟ هل الإرشادات التي يقدمها المدرس  للتلاميذ، كفيلة بتمكينهم من قراءة النص وتحليله تحليلا فلسفيا ؟.
إن الإرشادات أوالتوجيهات المدرسية،  تظل في كل الأحوال توجيهات عامة، قد تقدم وصفات جاهزة أو نماذج عن العمليات أو الأفعال المطلوب القيام بها  ومحاكاتها،  لكنها في غالب الأحيان،  لا ترسخ لدى التلاميذ  مهارات القراءة. فهل يمكن للتمارين  أن تساعد  التلميذ على تجاوز صعوبات القراءة؟
لا تكون التمارين على قراءة النص الفلسفي،  ذات فعالية،  إلا إذا اندرجت ضمن عمل متكرر ومتدرج،  يستهدف تصحيح أو تقويم خطأ أو ضعف يكون التلميذ على وعي بأنه هو مصدر الصعوبة التي يجدها في فهم النص ،  و لا تكون ذات قيمة  فلسفية إلا إذا  كانت تمارين على التفكير ولا تستهدف شيئا آخر، كالاستظهار أو التكرار أو الحفظ أو التطبيق الميكانيكي لنموذج سابق.   كما ينبغي أن تشكل التمارين لحظة لا تتجزأ من مسار  يتقدم فيه التلميذ  نحو امتلاك الكفايات المستهدفة في درس الفلسفة،  وان لا تكون معزولة عن الدرس وأهدافه، لان الغاية منها هي تعليم التفكير الفلسفي من خلال توجيه المتعلم إلى :
·        التفكير في مضمون النص ؛
·       ا لتفكير في مشكل مطروح صراحة او ضمنيا في النص ؛
·       التفكير في حجاج النص ؛
·       التفكير في الخروج عن النص وخلق قطيعة معه للقيام بتفكير خاص.
 لكن قبل الاشتغال على النصوص، لابد من تحديد طبيعة النص الفلسفي، هل له مواصفات تجعل منه نصا مختلفا عن غيره من النصوص الأدبية أو العلمية وغيرها ؟ هل هناك نص فلسفي أم هناك قراءة فلسفية للنصوص؟ ما الذي يميز النص الفلسفي وما هي المعايير التي تحدده؟

 خصائص النص الفلسفي:
هل تتحدد خصوصية النص الفلسفي من خلال مؤلفه "الفيلسوف" ؟ - الذي  لا يسقط ذاته على شخوصه مثل الروائي أو ينسحب كلية وراء الحقائق العلمية مثل العالم ، بل يتطابق مع فكره ويتحمل مسؤولية خطابه (ألم يتحمل سقراط هذه المسؤولية إلى حد الموت؟) - هل  تعتبر هذه  المسؤولية  سمة خاصة بالخطاب الفلسفي؟  أم أنها سمة يشترك فيها مع خطابات أخرى كالخطاب السياسي أو الديني ؟
تحديد النص الفلسفي، من خلال مؤلفه ومسؤولية صاحبه، قد لا يكون معيارا دقيقا لتعريفه ، إذ حملت نصوص فلسفية؛  توقيع  أكثر من مؤلف ، فسقراط  لم يكتب ولم يتم التعرف على فلسفته، إلا من خلال تلميذه أفلاطون ، فهل معنى ذلك أن النص،  لا يكون فلسفيا، إلا إذا ما اعتبره التلميذ أو القارئ كذلك؟ لكن وحده القارئ/ الفيلسوف ، بإمكانه  التعرف على النص الفلسفي،  بل إن أي نص آخر( وإن لم يكن فلسفيا) ، يمكن أن يصبح موضوعا لتفكير وتأمل الفيلسوف ، فكم من قراءة فلسفية تمت على نصوص أدبية ، مثال ذلك، تعليق هيجل على ديدرو وقراءة هيدجر لقصائد هولدرين، فنصوص ديدرو وهولدرين، لا تنتمي إلى النصوص الفلسفية،  و اهتمام الفلاسفة بها لم يجعلها كذلك. لذا فقراءة الفيلسوف للنص الفلسفي لا يمكن أن تكون مؤشرا للتمييز بين النص الفلسفي وغيره ، فالقارئ إذن، لا يمنح للنص سمته الفلسفية .
لا يستمد   النص الفلسفي خصائصه، من شروط خارجية،  بل من شرط داخلي، وسمة خاصة يتميز بها ، ألا وهي صفاؤه ونقاؤه وصرامته، لكن هل يوجد نص أو خطاب فلسفي، يتمتع بالصفاء المطلق والصرامة و لا يسقط في تبسيط أو غموض اللغة العادية؟  لعل هذا ما دفع  سقراط إلى رفض الكتابة وجعل أفلاطون يتحفظ منها، حين قال "كل امرئ جاد يحتاط من تناول الأمور الجدية كتابة وعرض فكره على العامة"(1). لأن الكتابة قد تضر بصاحبها ، سيما حين يصبح النص المكتوب،  عرضة للتأويل والتحريف،  و قد حذر  سقراط، من الكتابة، حين سعى إلى  تبليغ فكره الفلسفي، في إطار تعليمي مباشر. لكن رفض الكتابة قد يعني الموت، وهذا ما جعل أفلاطون يختار الكتابة رغم حذره، حتى تدافع الفلسفة عن نفسها وتبرر وجودها. ففي الكتابة إنقاذ من النسيان .
  لقد واجه النص الفلسفي،  منذ لحظة  ظهوره ، تهديدا  بخيانة فكر صاحبه وتحويله إلى نص شبيه بنصوص  السفسطائي،  الذي ينتج نصا خطابيا يستمد قوته من مهاراته اللغوية والبلاغية ، لكن  ينكشف  فراغه و ضعفه ، كلما أعيدت قراءته؛ خلافا لنص  الفيلسوف، الذي تظهر قراءته المتكررة ، قوته وعمقه الفكري ، لأنه يحمل الاعتقاد في قوة الحقيقة، بل  إنه يبرهن على متانته  وتماسكه رغم مرور الزمن.
 وحده الفكر المكتوب، يمكن أن يكون موضوعا للفهم، لأنه قابل للقراءة عدة مرات، و لذا يعمل النص الفلسفي المكتوب من خلال نسيجه على الحذر من الوقوع في التناقض.  ويمكن القول، إن أهم خاصية تميز  النص الفلسفي، هي انشغاله بالحقيقة وحدها وحرصه على عدم التناقض .
النصوص الفلسفية، هي تلك النصوص التي تستمد قوتها، من الحقيقة ذاتها، ليس لأنها تحمل الحقيقة، بل لأن ما يحركها هو إرادة الحقيقة.  فالفلسفة لا تمتلك  الحقيقة ، بل تبحث عنها، ولا يمكن رفض عمل جعل هدفه البحث عن الحقيقة ،  فرغم انتقاد أرسطو لأفلاطون مثلا،  لم ينف عن محاوراته  صفة الفلسفة ، في حين سخر من امبدوكل ولم يعترف به كفيلسوف، للجوئه إلى استعمال الصور،  التي رغم ما أضفته على نصه من جمالية في الأسلوب، (مثلا حين وصف البحر بعرق الأرض) لم تعبر عن انشغاله بالحقيقة.  فاستخدام الصور قد يؤدي إلى التباس المعنى أو إلى الوقوع في  التناقض، رغم ما تسمح به هذه الصور من اقتصاد في القول ومن زخرفة في الكلام.  لكن الخطاب الفلسفي، لا يسعى وراء تكثيف للمعنى، بل هو على العكس من ذلك، يقصد التفكير في الأشياء ويريد الوصول إلى معانيها ودلالاتها، لذا كان عليه أن يكتب ليأخذ كل الوقت الضروري لذلك.
 لا تستمد النصوص الفلسفية سمتها ، مما هو خارج عنها ؛ لأن الفلسفة معيار ذاتها، كما هي رغبة في المعرفة الكلية،  تملك القدرة على الحكم  على المعارف الأخرى ونقدها ، لا من حيث شكلها وأناقة أسلوبها، وإنما من حيث دقة وصرامة استدلالها .  لكن إذا كانت الفلسفة قد منحت نفسها حق الحكم وتقييم نصوص ومعارف أخرى،  فقد ألزمت نفسها بمعايير وقواعد صارمة. و هي تلك التي عبر عنها أفلاطون في فيدر بقوله " ينبغي أن يكون كل خطاب مثل الكائن الحي له جسد وأن لا يكون دون رأس أو قدمين فقط بل أن يكون له أيضا وسط وأطراف ، أي تمت كتابتهما بشكل يتناسب مع الكل ".(4)
أن يكون النص ككائن حي، يعني أن يتسم بالنسقية ،لأنه يريد أن يفكر تفكيرا كليا ، دون الوقوع في التناقض. ومهما كان الشكل الذي يعبر من خلاله الفيلسوف ( محاورة، مقال، نسق هندسي أكسيوميي، أو شذرات.... ) فانه ينتمي إلى نسق يوجد في أفق تفكيره.
 قد يتم الاعتراض على خاصية النسقية ، بكون  الأنساق الفلسفية،  قد تم تجاوزها ، لكن لا تعني  النسقية  الانغلاق في بنية تامة ومكتملة، بل يقصد بها ذلك  الجهد نحو النسقية ، أكثر مما يدل على النسق بالمعنى المتداول.
إن نسقية النص الفلسفي، التي لا يحققها إلا "كجهد فكري  نحو الشمولية "، يستدعي  ما يتممه أي القراءة، لكن ليس من أجل الوقوف على  قصور هذا النص وإنما لإبراز قيمته وعمقه .
قراءة النص الفلسفي :
إذا كانت القراءة امتلاكا للنص ، فينبغي الاعتراف بأنها شيء صعب على المتعلم. فقراءة التلاميذ للنص الفلسفي ، لا تكون من منطلق إرادتهم وبمحض رغبتهم (فهي غالبا نصوص مقررة أو مدرجة في كتب مدرسية) خصوصا وأن هذه القراءة تتطلب جهدا وصبرا. لذا فان قراءة النص الفلسفي في الفصل، لا تكون بالضرورة قراءة فلسفية، لأن النص  الفلسفي، لا يبوح إلا بما يستطيع القارئ اكتشافه، خصوصا وأن عملية الفهم ليست أمرا معطى وإنما يتم تحقيقها عبر حركة التفكير.
إن الصعوبات التي نستشفها في كتابات التلاميذ وفي الأقسام ، قد تدفع إلى التساؤل لماذا لا تحقق التوجيهات والإرشادات  التي يقدمها المدرس للتلاميذ الفعالية والأثر المتوخى منها؟
إن أول خطوة نحو قراءة النص الفلسفي، هي التعرف عليه ككلام يحمل معنى، ويستدعي إنصات القارئ واهتمامه حتى يتحقق الحوار بينهما. صحيح أن التلميذ لا يستطيع متابعة الحوار مع النص، أو مع  نفسه او مع المدرس،  انطلاقا من  هذا النص، لكن لأن الكلام يولد الكلام، فإن الإنصات إلى كلام النص يعني القدرة على الكلام.  فالكلام والتفكير لا يتمان في عزلة، بل يفترضان وجود الأخر (المحاور) . كلام الفيلسوف إذن، هو مناسبة لكلام حقيقي،  يتخلص من الأحكام المسبقة و من العادات السلبية في التفكير، فكلام النص يقدم للقارئ دليلا على إمكانية الاستقلال في التفكير، وعدم تكرار (كلام الآخر)لكن دون القطيعة معه . من هنا يمكن القول إن أول قيمة  تعلمها قراءة النص الفلسفي هي إمكانية بناء فكر مستقل، حيث يمثل نموذجا لاشتغال الفكر الذي يعبر عن ذاته بواسطة الكلام/ اللغة، و يدعو القارئ إلى العمل بالمثل ومحاكاته ببلورة فكر شخصي ينطلق من فعل القراءة.
فعل القراءة
إذا كان فعل القراءة، نشاطا يهدف إلى إدراك وبناء معنى النص،  باعتبار هذا الأخير كلاما ذي معنى، فكيف يمكن تحديد هذا المعنى؟ خصوصا وأن معنى كلمة أو عبارة في النص، قد لا يوجد بالضبط في هذه الكلمة أو في تلك العبارة  و إلا كان شرح الكلمات و العبارات وتكرار كلام النص (كما يحدث في غالب الأحيان مع تلامذتنا) يعد قراءة فلسفية.  ففعل القراءة لا يعني ملاحظة إشارات أو علامات أو تكرارها،  وإنما هي عملية تتوجه من العلامات إلى المعنى، فمعنى التعبير يتجاوز العبارة .
اعتبار النص كلاما ذي قصد ومعنى، بوضعه في إطاره التداولي ككلام وحوار بين متكلم(الفيلسوف) ومخاطب(القارئ/المتعلم) يصبح بدوره متكلما، قد يعد خطوة أولى نحو تجاوز صعوبات القراءة، لكن هذا  الكلام هو أيضا تفكير في مشكلة أو إشكال،  يمكن أن يفكر فيها  القارئ (المدرس والتلميذ  )، ومن تم لابد أن تنطلق قراءة النص الفلسفي  من المبادئ الآتية:
·           اعتبار النص حاملا لقصد ومعنى ؛
·          وحده الفكر الذي يحركه نفس القصد يمكنه أن يفهم النص ؛
·          المعنى الذي يحمله النص يندرج في إشكالية محددة، وذات قيمة كونية .
 لكن قراءة أو دراسة مقطع من النص (كما هو الشأن في النصوص المدرجة في الكتب المدرسية) ، يطرح صعوبات إضافية نظرا لجهل سياقه، ولأنه يتخذ معنى في إطار علاقته بالمؤلف ككل. و لا قيمة له في حد ذاته، إلا في إطار الدرس ،حيث تم اختياره وفق مقتضيات، تسمح ببناء معناه واكتشاف  تساؤلات صاحبه  في إطار إشكال مطروح هو نفسه إشكال  الدرس .
الاشتغال على النص المقتطف (كما هو الحال في النصوص المدرجة في الكتب المدرسية) ، لا يغيب كلام صاحبه، وإنما  يركزه في نقطة محددة - هي نفس مشكل الدرس – وتستهدف قراءته البحث عن هذه المشكلة المشتركة التي طرحها أيضا الفيلسوف صاحب النص ،أو قدم لها حلا أو تأويلا معينا.  لذا لابد من الافتراض المسبق لوجود نقطة يتمركز فيها المعنى ينبغي أن تعمل القراءة على اكتشافها ، والإمساك بالخيط الذي يقود إليها عبر مسارات النص. وهذا لا يتم بقراءة متسرعة أو سطحية،  تبحث عن كلمة أو مفهوم صريح ، تناوله الدرس، أو عن أطروحة النص في  عبارته الأولى ، وإنما بالقراءة التي  تبرز البعد التداولي للنص وتعمل على تحيين فعل القول المتضمن فيه  وتكشف عن المعنى وراء الكلمة والمفهوم خلف العبارة.
 لكن كيف يمكن الإمساك بالمعنى المتضمن في النص،  من قبل القارئ/التلميذ؟، الذي يتوقع  فكرة أساسية واضحة، يمكن أن يتعرف عليها من خلال منطوقها ؟ كيف يمكن أن يكتشف هذا المعنى دون امتلاك ثقافة أو معرفة فلسفية ، كتلك التي يمتلكها المدرس؟ الانتقال من قراءة سطحية إلى قراءة فلسفية ، يقتضي استنطاق النص وطرح أسئلة عليه  من قبيل: ما الذي يريد صاحب النص قوله؟ ماذا يريد أن يثبت؟ وكيف يثبت ذلك؟ ما هي التمييزات الفلسفية التي لجأ إليها؟  ما الذي يقوم به النص و ما هو الشيء الجديد الذي  يطرحه   للتفكير؟
يقتضي الاشتغال على النص  العمل على إعادة بنائه ، وعدم الاقتصار على اعتباره معرفة تامة البناء،أو مجرد قول أو منطوق، ولكن الإمساك بحركة بنائه و إدراكه كجهد للتعبير الفلسفي، مع وعي قارئه أنه ليس مجرد متلق عادي بل عليه أن يشارك النص، في التفكير من خلال لحظة الكتابة .
الافتراض المسبق لوجود نقطة أونقط  مركزية للمعنى ،  ينسجم مع  طبيعة النص الفلسفي،  الذي يشتغل على اللغة الطبيعة، حيث يبني كل فيلسوف، علاقات دلالية جديدة تكون مصدرا للمفاهيم والمصطلحات الفلسفية التي لا تحمل معناها في ذاتها ،  كما هو الشأن مثلا  بالنسبة للمصطلحات والمفاهيم الرياضية، التي تحتفظ بنفس الدلالة في جميع المبرهنات .إن السيمانطيقا الفلسفية، ليست من النمط المعجمي بل الفكري، وكيفية حضور المفاهيم والمصطلحات والقضايا، هو ما ينبغي ان تتوجه إليه القراءة ، أي إلى العلاقة بين الفكر واللغة وعدم اعتبار اللغة أو العلامات اللغوية مجرد وسيلة لنقل الأفكار. فلا وجود لفكر خارج الصياغة الفلسفية للغة، والنشاط الفلسفي نشاط مزدوج المظهر فهو نشاط لغوي وفكري أو عقلي. لذا فخصوصية النص الفلسفي تتشكل في طريقة بنائه وفي الآليات التي يعتمدها في ذلك ولعل أهم هذه الآليات هي :
·     الطرح الإشكالي أو الأشكلة؛
·      بناء المفاهيم وصياغتها
· توظيف أساليب للحجاج والبرهنة ؛
·      توظيف التمثيل وأساليبه ؛
·     توظيف طرق وأساليب الإقناع ؛
·       تفاعله مع نصوص وخطابات أخرى من خلال الهدم والبناء والتمثل والاستبعاد...
لكن حضور هذه الآليات يتفاوت من نص لأخر، مما يؤكد عدم وجود نموذج واحد للممارسة الفلسفية.   فلا وجود لمنهجية أو مقاربة واحدة وموحدة لقراءة النص الفلسفي ، فكل نص قد يفترض طريقة معينة لقراءته وكل منهجية هي منهجية نسبية ومؤقتة قابلة للتعديل والتغيير والإغناء. واختيار منهجية أو مقاربة قد تحدده أهداف التعليم الفلسفي، فهي التي تفترض التعامل مع النص الفلسفي كنموذج للتفلسف أو التفكير الفلسفي .
لكن من الممكن أن تعتمد قراءة النص الفلسفي ، في المجال التعليمي، مقاربة تكشف بنية النص وما يقوله من  خلال مفاهيمه وأفكاره الصريحة أو الضمنية ، وتحلل الكيفية التي يعرض بها هذه المفاهيم والأفكار والأدوات التي يوظفها، ويمكن إن تتمحور هذه المقاربة حول:
·       تحديد موضوع النص ؛
· الوقوف عند تمفصلاته أو العلاقات بين المفاهيم ؛
·      استخراج إشكاليته ؛
·       استخراج الأفكار التي يتضمنها؛
·       تحديد أطروحته التي يدافع عنها؛
·       إبراز وتوضيح منطقه وكيفية بنائه واليات العرض والبرهنة والحجاج والتمثيل ؛
·       الكشف عن النصوص أو الإحالات التي يتضمنها وطبيعة العلاقة التي يقيمها معها.
هذه المقاربة لا تكتمل إلا بمرحلة أخرى ترمي إلى تأويل النص، من خلال فعل نقدي يشكل وساطة بين النص موضوع القراءة والنص الذي يقوم القارئ/المتعلم بكتابته، من خلال إبداء الرأي وصياغة الأفكار الشخصية حول موضوعه او الإشكال الذي يندرج ضمنه، وذلك باتخاذ مسافة مع النص وإصدار حكم نقدي حول مضمونه و طريقة عرضه وتقييم أفكاره و أطروحته،والمنطق الذي انبنت عليه أدواته اللغوية والبلاغية.
التأويل في المستوى المدرسي، هو لحظة أساسية – لتحقيق أهداف التعليم الفلسفي – إذ يتعلق بإبراز الأهمية والقيمة الفلسفية للنص وتركيبه وإعادة بنائه ومنحه راهنية وتحقق جديدين .
قراءة النص الفلسفيٌ فضلا عن كونها  عملية لتعليم وإنتاج أدوات الكتابة الفلسفية والتمرن على استخدام آليات الكتابة الفلسفية، من أشكلة وصياغة السؤال الفلسفي واستخدام أساليب البرهنة وأنواع الحجاج  وأساليب التمثيل وكيفية التحليل والنقد  ، فهي تكسب المتعلم قيمتين أساسيتين تتمثل القيمة الأولى في كون التفكير لا يتم في عزلة عن تفكير الأخر والحوار معه، أما القيمة الثانية فهي حرية التفكير،  فتعدد النصوص هو مظهر لهذه الحرية  وهي تقدم للمعلم والمتعلم نموذجا لممارسة التفكير الحر، الذي ينبغي الاقتداء به.

الهوامش
1 التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس الفلسفة2007 ص 14
2 نفس المرجع ص 16
3- Platon : lettre XII 344c cité par :Bernard sève in exercices philosophiques ;p17 hachette 1974
4-Platon :Phèdre 264c cité par Bernard sève op cité p21

المراجع :
التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفكر ألإسلامي و الفلسفة بالتعليم الثانوي 1991
التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس الفلسفة 2007

Bernard Sève :Exercices ,Hachette université 1979
Françoise Raffin : la lecture philosophique, Hachette, Education 1995
Frédéric Cossuta : Eléments pour la lecture des textes philosophique, Bordas 1989