الأحد، 14 يونيو 2020

مفهوم التاريخ

الطرح ا|لإشكالي:

إن الإنسان ليس كائنا ميتافيزيقيا يتعالى عن العالم المادي الملموس، بل إنه كائن تاريخي، كائن يتطور في الزمان والمكان، ويخضع لمجموعة من الشروط الموضوعية: اقتصادية، اجتماعية، سياسية… وهذا هو ما يسمى: التاريخ. الذي يثير قضايا فلسفية حول المعرفة التاريخية باعتبارها معرفة حول الماضي، لكنها في نفس الوقت لا يمكن أن تنفصل عن الحاضر بل والمستقبل. ومن بين المفاهيم المركزية في علم التاريخ نجد مفهوم التقدم الذي يختلف المؤرخون حول المسارات التي يتخذها. وأخيرا الدور المعقد الذي يتخذه الفاعل الأساسي في التاريخ، أي الإنسان. وهي قضايا يمكن صياغتها من خلال الأسئلة الموالية وهي

ما هي المعرفة التاريخية؟

هل للتقدم مسار واحد؟ أم مسارات متعددة؟

من الذي يتحكم في الآخر؟ الإنسان أم التاريخ؟

المحور الأول: المعرفة التاريخية.

ريمون أرون:المعرفة التاريخية و رهان فهم الماضي.
إننا نعيش في مجتمع معين، ونحافظ على آثار ما كان موجودا من قبل. نحفظ الوثائق ونصون الآثار ونرممها، ويمكننا، انطلاقا من هذه الآثار، حسب ريمون أرون، إعادة بناء ما عاشه الذين سبقونا بهذا القدر أو ذاك. وبهذا المعنى، تصبح المعرفة التاريخية هي إعادة بناء ما كان موجودا ولم يعد كأثر، غير أنها عملية تخص زمانا ومكانا محددين، ولا تخص إعادة بناء مجردة للماضي 

بول ريكور: بناء الوقائع التاريخية

إن فهم الماضي من خلال الآثار والوثائق هو في جوهره ملاحظة، والملاحظة- في نظر بول ريكور – ليست تسجيلا وتدوينا للوقائع بشكلها الخام. إنها إعادة تكوين حدث ما، أو سلسلة من الأحداث، أو وضعية، أو مؤسسة، انطلاقا من الوثائق بعد أن خضعت للمساءلة، وثم استنطاقها من طرف المؤرخ. وهذا العمل المنهجي هو الذي يجعل الأثر التاريخي وثيقة دالة، ويجعل من الماضي واقعا تاريخيا أو حدثا تاريخيا 

وهكذا يتمكن المؤرخ- حسب ريكور- معتمدا على الوثائق، ومنطلقا من الملاحظة المنهجية، من بناء الوقائع التاريخية 

المحور الثاني: التاريخ وفكرة التقدم 

كارل ماركس:تطور التناقض محرك التاريخ

يدخل الناس، بمناسبة الإنتاج الاجتماعي لشروط وجودهم، في علاقات محددة وضرورية مستقلة عن إرادتهم، حسب كارل ماركس. وتعكس علاقات الإنتاج درجة تطور قوى الإنتاج المادي. وتشكل مجموع علاقات الإنتاج، البنية التحتية والاقتصادية للمجتمع، والأساس الملموس الذي تقوم عليه البنية الفوقية التي تقابلها أشكال الوعي الاجتماعية. إن نمط إنتاج الحياة المادية يشرط سيرورة الحياة الاجتماعية والسياسية و الفكرية عموما. وفي مرحلة معينة من تطور قوى الإنتاج المادية للمجتمع تدخل هذه الأخيرة في تناقض مع علاقات الإنتاج لتبدأ مرحلة الثورات الاجتماعية، يمكن تصنيف أنماط الإنتاج: العبودي، الفيودالي، والرأسمالي بأنها عصور وحقب متدرجة للتركيبة الاجتماعية- الاقتصادية. فعلاقات الإنتاج التي تميز نمط الإنتاج الرأسمالي هي آخر نمط إنتاج متناقض في سيرورة الإنتاج الاجتماعي، ومع هذه التشكيلة الاجتماعية الأخيرة، ينتهي ما قبل تاريخ المجتمع البشري، حسب التصور الماركسي 

تصور ميرلوبونتي: عرضية  التاريخ.


لقد اعترض موريس ميرلوبونتي على كل تصور آلي منغلق يخضع للضرورة، يجعل التاريخ يتقدم نحو اتجاه محدد مسبقا. لهذا حافظ ميرلوبونتي على مسافة نقدية مع التصور الماركسي، حيث يمكن للنمو الاقتصادي مثلا أن يكون متقدما على النمو الإيديولوجي، أو يمكن للنضج الإيديولوجي أن يحدث فجأة دون أن تتهيأ الشروط الموضوعية لذلك، أو عندما لا تكون الشروط مساعدة على الثورة، إننا حين نتخلى بصفة نهائية عن التصور الحتمي، لصالح تصور عقلاني للتاريخ، لا يصبح منطق التاريخ غير إمكانية ضمن إمكانات أخرى. 

المحور الثالث: دور الإنسان في التاريخ

 هيجل: مكر التاريخ

إن سيرورة التاريخ في- في نظر فريديريك هيغل- محكومة بالروح المطلقة، من خلال أعمال العظماء والأبطال الذين يدركون جوهر هذه الروح، حيث يعملون على إخراجها من الخفاء إلى الظاهر عندما يحققونها في التاريخ حسب منطق التطور، وهذا ما يدفع الناس إلى التحلق حول العظماء لأنهم يعرفون أن هؤلاء الشخصيات تمثل الاتجاه العميق للتاريخ، لأن أفعالهم وخطاباتهم هي أحسن ما يتوفر عليه عصرهم. ثم يتخلى عنهم التاريخ بعد أن يحقق ذاته من خلالهم، إما يموتون شبابا كالإسكندر الأكبر، أو يقتلون كالقيصر، أو ينفون كنابليون 

إن دور الإنسان في التاريخ من خلال ما ينجزه العظماء- حسب هيغل- يتمثل في كونهم مجرد وسائل لتحقيق وتجسيد الروح المطلقة 

سارتر:الإنسان صانع لتاريخه 

إن الإنسان- حسب ج. ب. سارتر- يتميز بقدرته على تجاوز وضعه لأنه يستطيع أن يفعل شيئا بما يُفْعَلُ به. إن هذه القدرة على التجاوز هي أساس كل ما هو إنساني، وهو ما نسميه المشروع، الذي هو نفي وإبداع: أي نفي ما هو معطى بواسطة الممارسة والفعل، وإبداع أو بناء موضوع لم يظهر مكتملا بعد، ولا يتصور أحد هذا التجاوز لما هو معطى إلا في إطار علاقة الإنسان بممكناته. إن حقل الممكنات هو الهدف الذي يقصده الإنسان لتجاوز وضعيته إن الفرد- بالنسبة لسارتر- يصنع التاريخ عندما يتجاوز وضعيته نحو حقل ممكناته، من خلال تحقيق إحداهما 

خلاصات و استنتاجات: 

إن التاريخ في عمقه هو علم يتخذ من دراسة الماضي موضوعا له، إلا أن دراسة الماضي ليست غاية في ذاتها، بل هي عملية بتم من خلالها التعرف على تجارب الماضي وذلك قصد عدم تكرار الإخفاقات، واستثمار التجارب الناجحة لبناء المستقبل.

 

إن التاريخ يخضع لقانون التقدم، رغم بعض التقطعات، ولحظات التراجع الطارئة، إلا أن هذا التطور لا يتخذ خطا واحدا من المفروض على كل المجتمعات أن تلتزم به، بل إنه يتحقق بطرق متعددة ومتنوعة حسب خصوصية كل مجتمع.

 

إن هناك علاقة جدلية بين الإنسان والتاريخ باعتبار أن الإنسان كائن تاريخي، كما أن التاريخ معطى إنساني، وهكذا فالإنسان يصنع تاريخه بقدر ما يصنع التاريخ الإنسان.

 

تقديم عام لمجزوءة الوضع البشري

 

 

إن الوضع البشري بنية مركبة تتميز بالتعقيد، حيث تتداخل فيه عدة مستويات، منها ما هو ذاتي، وما هو موضوعي، وما هو علائقي، وما هو زماني، إذ يتحدد الكائن البشري ذاتيا بالوعي، وموضوعيا بالتواجد مع الغير، والعلاقة التي تربط بينهما (الذات – الغير)، إضافة إلى الامتداد في الزمان التاريخي

فالكائن البشري، فرد ذو ملامح بيولوجية، ونفسية، وذهنية خاصة. تجعل منه شخصا محددا يتمتع بقسط من حرية الإرادة، لكنه في نفس الوقت مشروط بمحددات اجتماعية ونفسية لا واعية، لكن تَشَكُّلُه لا يتم في معزل عن الغير. وهكذا فوجود الغير والعلاقة معه شرط ضروري لبناء الذات. إن هذا البعد الغيري، هو بعد ضروري إلى درجة اعتبار العزل الانفرادي للشخص شكلا من أشكال العقاب القاسي. لكن العلاقة مع الغير هي جزء من علاقة أوسع هي العلاقات الاجتماعية، لأن الآخرين ليسوا مجرد أفراد متناثرين هنا وهناك، بل يشكلون نظاما جماعيا عاما منظما اقتصاديا وسياسيا وإداريا هو المجتمع، الذي يخضع لصيرورة زمنية تطورية يترابط فيها الماضي والحاضر بالمستقبل تسمى: التاريخ

 

وهذا ما يدفعنا إلى طرح الأسئلة التالية

أين تكمن الطبيعة الجوهرية للشخص؟

ما العلاقة التي تربطه بالغير؟

كيف يساهم الإنسان في صنع تاريخه؟

الجمعة، 12 يونيو 2020

المقاربة المفاهيمية في الدرس الفلسفي

1- المفهوم بوصفه تصورا أوليا:
نستعمل هنا مصطلح المفهوم مقابلا للفظ (Notion)، دون الإحالة على لفظ (Concept) الذي يحمل في دلالته الفلسفية معنى التمثل الذهني المجرد الموحد لمواضيع مختلفة داخل فئة تدرك بها هذه المواضيع من خلال سماتها المشتركة. وللتمييز بين المصطلحين يمكن الاصطلاح على تسمية المفهوم بمعناه الأول، ب"الموضوعة" أو " التصور الأولي"، مادام هذا الأخير يشير إلى تمثل أولي لموضوع ما يتميز بطابع لا نقدي أو إيديولوجي (في هذه الحالة يتحدد التصور الأولي بشكل مقارن مع المفهوم والمقولة  Concept , catégorie بمعناها الفلسفي).
يشير المفهوم/ التصور الأولي إلى التمثل العادي الذي يحمله لفظ ذو معان ودلالات مختلفة على قدر كبير من العمومية والغموض، كما قد يحمل مكونا معرفيا أوليا. يبدو ذلك واضحا عند فحص الصلاحية الفعلية للتصور الأولي وآثاره من حيث هو تمثل. وكما يشير إلى ذلك دوركايم، فإن الإنسان لم ينتظر ظهور علم الاجتماع ليكون أفكارا حول الجماعة والسلطة والمجتمع، لذا يقترح دوركايم تسمية هذه التصورات التي نجدها جاهزة فينا قبل كل فحص نقدي ب"التمثلات المسبقة". لذا يفترض الفحص الفلسفي الاشتغال العقلي القائم على تحليل اللفظ في صيغته العامة على نحو لا يأخذ فيه هذا الأخير صلاحيته الفلسفية الكاملة إلا إذا تم فحصه في دلالاته المختلفة من خلال ما يحمله من حدوس حسية وتمثلات وأشكال أولية ومباشرة للمفهوم. هكذا يكون من المفيد تحليل التصور الأولي واستجلاء ما يحمله من شرائح الدلالة، وصولا إلى بناء مختلف التعريفات واستخراج المفهوم من شوائب العموميات الأولية.

2- تحليل التصور الأولي:
يمكن اعتبار أن الفلسفة انبنت في جزء كبير منها ومنذ البداية على تفكير تركز على المضمون الفعلي للتصورات الأولية العامية المشتركة. وقد أدى هذا التفكير إلى التساؤل حول تكون هذه التصورات وتحويلها إلى مفاهيم فلسفية مجردة وإلى مقولات من خلال الألفاظ والمشكلات النابعة من التصورات الأولية ذاتها.
ومن بين المشكلات الفلسفية المتميزة داخل الحوارات السقراطية نجد الإقرار بالعجز والفشل الحاصلين عن اصطدام رأيين متناقضين يعجز كل منهما على تبرير ذاته عقليا نظرا لارتباطهما بمقاربة جزئية أو مبثورة تحكم عليها مسبقا بالعقم. ينشأ عن المفارقة أو الإحراج الفلسفي مشكل فلسفي يزعزع "السبات الدوغمائي" والطمأنينة الكاذبة اللذان ينتجان عن التصورات الأولية التي تحمل أحكاما مسبقة وجاهزة. ويمكن الإحالة هنا على تساؤل هيوم حول القيمة الفعلية لمفهوم العلة (هل لمفهوم العلة حقيقة موضوعية أو هو مجرد خطاطة ذهنية ترسخها العادة؟) الذي حث كانط على إعادة التفكير في الوضع الفعلي للمفاهيم الميتافيزيقية وفي شروط المعرفة.
إن التفكير في مضمون تصور أولى ما بوصفه وبإبراز الآلية الذهنية والثقافية لتكونه واستجلاء الآثار التي يمارسها، هو شرط إمكان التفكير النقدي (التفكير اعتمادا على الذات) والاستقلالية اللذان يمكنان من إحلال الأفكار التي تحصل عن تفكير منعكس على الذات وعن تحليل عقلاني، محل الأحكام المسبقة والتمثلات السابقة عن الفحص النقدي والقيم الإيديولوجية السائدة التي تغمر اللغة العادية وتبدو وكأنها بداهات محايدة (الفرد، التقدم، التعاقد... كتصورات محددة تاريخيا، الخير، الشر، الجميل، القبيح... بصفتها مشحونة بحمولات عاطفية ونفسية).
من الجلي إذن أن التفكير النقدي الذي يتركز على التصورات الأولية يكتسب مشروعية قصوى مادام الأمر يتعلق بتبديد البداهات الخاطئة والأحكام المسبقة التي تشكل أجوبة جاهزة عن أسئلة غير معبر عنها.

3- لحظة التحليل المفاهيمي/ تحليل التصورات الأولى:
يمثل تحليل المفهوم/ التصور الأولي الخطوة الأولى في الاشتغال على المفاهيم، ويقوم هذا التحليل على تعيين ما يضمه اللفظ الحامل للتصور الأولي وإبراز مختلف دلالاته وتمييزها عن الألفاظ ذات الدلالة القريبة ومقابلتها مع أضدادها. ويتلخص هذا الاشتغال في عمليات التحليل والتفسير والعرض والتعريف.
غير أن البحث في مدلول اللفظ الحامل للتصور الأولي لا ينحصر داخل هذا اللفظ فقط، ذلك أن الاشتغال هنا لا يقتصر على التحليل فقط بل يستمد قوته من فحص العلاقات المتعددة والمركبة التي تربط لفظ التصور الأولي بغيره من الألفاظ. ها هنا يكون من المفيد استدعاء ألفاظ وسيطة تربطها علاقات تضافر مع اللفظ المدروس. ذلك أن هذا الأخير لا يوجد أبدا خارج سياق ووسط لفظي، إذ  تربطه روابط متلازمة وضرورية وخصبة مع ألفاظ مفهومية أخرى، وهي روابط لا يتم إدراكها إدراكا مباشرا، بل تدرك عن طريق التحليل والتفسير اللذين يؤديان إلى تبين طبيعتها. يكون التفكير في المفهوم/ التصور الأولي إذن إدماجا له داخل حقل من العلاقات وإبراز لطبيعة العلاقات الخفية التي تربطه بالمفاهيم الأولية الوسيطة التي تشكل أساس دلالته. فلكي نفكر في لفظ العنف مثلا، ينبغي استدعاء مفاهيم الطبيعة والقوة والعدالة والجور والإكراه والطاعة والدولة والعنف الرمزي والعنف المشروع والعنف الشرعي...
يفضي تحليل المفهوم/التصور الأولى إلى لحظة أساسية تتمثل في تحديد المفهوم الفلسفي، وتتضمن هذه اللحظة مرحلتين: مرحلة التمييز بين الدلالات ومرحلة تحديد التقاطعات بين هذه الدلالات:

·        تعتبر مرحلة التمييز بين الدلالات ضرورية، لأن وحدة اللفظ قد تشير إلى فكرة غامضة أو بالغة العمومية. كما أنها في جميع الحالات لا تضمن وحدة المعنى. فإذا أخذنا مفهوم الشغل مثلا، وجب التمييز بين العمل اليدوي والعمل الذهني والعمل الفني وأشكال الشغل المأجور... فالدلالات المختلفة التي يحملها لفظ " الشغل" غير متكافئة، مما يجعل بناء الدلالة متوقفا على عرض مختلف الحقول التي تشتغل داخلها.

·        مرحلة تحديد التقاطعات، وتتمثل في البحث عن التقاطعات القائمة بين المعاني المختلفة التي يحملها اللفظ، واستخراج الدلالات المشتركة بينها. وهذه المرحلة لا تقل أهمية عن لحظة التحليل، إذ تشكل الغاية الحقيقية لهذا الأخير وتمثل لحظة طرح أسئلة من قبيل: فيم تشترك الدلالات موضوع العرض وفيم تختلف؟ كيف تتيح الدلالة الأولى مثلا، بناء الدلالة الثانية؟ أين يكمن التعارض بين الدلالتين؟. وإذا رجعنا إلى مثال مفهوم الشغل، وجدنا أن هذه اللحظة تفترض تشغيل مختلف دلالات اللفظ وإبراز طابعها الإجرائي وفق حاجيات الاستدلال وضروراته. هكذا سيكون على التحليل أن يرجع إلى العمل القسري لدى العبد أو لدى القن، وإلى العمل المأجور وفق التصور الماركسي... لكي يتبين أن صنفا من الشغل يشكل مصدر استلاب. وما دام هذا البعد لا يستنفد دلالة الشغل، فلا بد أن يمضي التحليل إلى مدلول الشغل لدى هيجل الذي يعتبر أن هذا الأخير يمتلك بعدا مكونا ومربيا، يتيح نوعا من المعرفة والاستقلالية من خلال تشكيل المادة بالخضوع لقوانينها وقوانين صناعة الأشياء. وهنا يمكن التمثيل بعمل الصانع التقليدي أو الفنان، كما يمكن الإحالة على العمل الذهني.

4- التساؤل الفلسفي:
يشكل التساؤل في عملية بناء الدرس الفلسفي اللحظة التي يعود فيها التفكير إلى ذاته بغاية الإحاطة بالمشكل وتحويله إلى موضوع للتفكير. وليس التساؤل هنا سوى محاولة لإدراك مدلول الضرورة الذي يقتضي تحديد السؤال المفروض طرحه للانتقال من مرحلة في التحليل إلى أخرى والكشف عن مشكلة أو مشكلات فلسفية محددة.
وفي هذا الصدد، لا يوجه السؤال مباشرة إلى فيلسوف بعينه إلا إذا تعذر ذلك (كما هو الحال عند نقاش نقدي يتوجه إلى أطروحة فيلسوف محدد). إذ ينبغي طرح المشكل الفلسفي من حيث كونيته، وينبغي أن يتيح ذلك إمكان الإحالة على أي فيلسوف كان – ولو أن باستطاعة فلسفات معينة أن تساعد على معالجة، أحسن لهذا المشكل أو ذاك، مقارنة مع غيرها- فالفلسفة برمتها وفي كونيتها معنية بالسؤال الفلسفي. إن مفاهيم الوعي والرغبة والعنف والفن والحق والعدالة... تثار لدى جميع الفلاسفة، ولو أن الإحالة على بعض الفلاسفة يصعب تفاديها عند معالجة مفاهيم معينة. وفي هذا السياق يفترض توضيح وتفسير الضرورة التي تجعل طرح سؤال ما واردا وربط السؤال بالمشكلة الفلسفية التي يتم بناؤها. إذ ينبغي العمل على عرض وتفسير ما يجعل السؤال ملحا لتبرير العلاقة القائمة بينه وبين المشكلة المعالجة.

5- المشكلة الفلسفية:
تتحدد الفلسفة بقدرتها على طرح المشكلات التي تتشكل بداخل الأسئلة المباشرة والبسيطة. فالتفكير الفلسفي تفكير قلق، إذ يعالج أسئلة لا تقبل الأجوبة النهائية والبسيطة. كما أن التحليل في إطاره يؤجل الإجابة عن السؤال حتى يستطيع تناول المشكلة التي يطرحها هذا السؤال. على أن المشكل الفلسفي يعرف من حيث المبدأ، حلولا يؤدي إليها التحليل تتخذ شكل منطوقات تحمل أطروحات فلسفية؛ أما منشأه فيكمن في مساءلة تتيح استخراج المفترضات القبلية التي يشتغل المفهوم/ التصور الأولي انطلاقا منها، وفي تفكيك لهذا المشكل إلي أسئلة. وهكذا يقع التساؤل في منبع وفي مصب المشكلة الفلسفية.
يبدو السؤال إذن، في سياق تحليل المفهوم/التصور الأولي، الوسيلة المتميزة التي تستعمل بغاية أشكلة التفكير ورصد الصعوبات التي لا يمكن لغير التفكير الفلسفي رصدها. هنا تلعب الأسئلة الكلاسيكية من قبيل أسئلة التعريف والأسئلة المتعلقة بالأصل وبشروط الإمكان، دورا أساسيا. يتضح إذن أن التساؤل يعكس خصاصا ودهشة وبحثا ويفتح حقولا جديدة للتأمل.
6- الأشكلة وبناء المفارقة:
الأشكلة أو بناء المفارقة هي طريقة في التحليل والحجاج يتم من خلالها الربط بين أفكار متعارضة (أو ذات ظاهر متعارض) بغاية إعادة طرح موضوع ما للبحث والتساؤل.
تمكن الأشكلة من إنشاء مواجهة بين أفكار وأطروحات متضادة، لكن التحليل يبين زاوية أخرى للنظر يرفع وفقا لها التضاد أو تضفى عليه النسبية (الحرية والخضوع للقانون يبدوان على سبيل المثال متعارضين إلى حد إقصاء أحدهما الآخر...). وتعتبر الأشكلة أو المفارقة المنهج المساعد على إثارة التساؤل وتكثيفه حول المفهوم/ التصور الأولي وحول المشكلة الفلسفية من حيث أن الأشكلة تقتضي تجاوز التناقضات الظاهرة بغاية الوصول إلى حقيقة أكثر عمقا.
ولبناء المفارقة يمكن اللجوء إلى التقنيات التالية:

·          بناء مواجهة بين آراء ظنية متعارضة بغاية أشكلة الأفكار المسبقة الشائعة حول موضوع ما، والتي تحمل تناقضات ومسبقات يتوجب إعادة مساءلتها. إن بناء المشكلة من خلال وضع رأيين متعارضين والمقابلة بينهما وإبراز أن لكل منهما حجته حول مسألة بعينها، هو ما يستدعي التفكير الفعال ويثير الانتباه إلى صعوبة تستدعي الحل. وترمي تقنية الأشكلة هاته إلى وضع المألوف العامي موضع تساؤل، إذ تقدم الآراء المسبقة ذاتها بوصفها بداهات ملموسة، في حين أنها ليست سوى تعميمات غير مشروعة لمعطيات جزئية. هكذا تهيئ الأشكلة الطريق للتفكير الفلسفي الذي يسعى إلى دحض الدوغمائيات اليومية التي تتواجه وتزعم الإطلاقية، ويسعى إلى إضفاء النسبية على الشهادات المتعلقة بالمعيش وعلى التجارب الشخصية الخاصة.

·           إقامة مواجهة بين رأي دارج وأطروحة فلسفية. ترمي هذه المواجهة إلى إضفاء النسبية على الرأي الظني من خلال عرض أطروحة فلسفية تناقضه. تمتلك هذه المواجهة وظيفة نقدية واضحة من خلال التوتر الذي تقيمه بين نوعين من الأحكام المختلفة فيما يخص نفس موضوع التفكير. على أن مضمون الأطروحة الفلسفية لا يمكن تجريده عن الإشكالية الفلسفية الخاصة التي تشكل شرط إمكانه، كما أن مضمون مفهوم دارج أو رأي عامي لا ينعزل عن السياق الخاص بالتصورات الأولية وعن السياق الإيديولوجي الذي يندرج داخله. لذا، فإن المسافة النقدية-التأملية التي تفرق بين رأي اختباري ونسق فلسفي ما، لا بد من التفكير فيها داخل دائرة التمثلات الذهنية الخاصة بفترة تاريخية محددة، وهي تمثلات منغرسة دوما داخل سياق إيديولوجي. لهذا ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند القيام بمواجهة رأي دارج مع أطروحة فلسفية وتعميق التفكير على أساس هذه المرجعية المزدوجة.